برامج اكتشاف الأصوات والمواهب الغنائية: هل هي برامج للتسلية أم لتطوير الأغنية العربية؟
Programmes des Jeunes talents : sont-ils pour divertissement ou pour la promotion de la chanson arabe ?
تعددت برامج اكتشاف الأصوات والمواهب الغنائية المحلية والعربية، وتنافست القنوات الفضائية في تقديمها في أحسن حلة بعناوين مختلفة: "سوبر ستار"، "أرب آيدل أو محبوب العرب"، "إكس فاكتور"، "ألحان وشباب"، "ستار أكاديمي" وغيرها مما تختلف أسماؤها ويتشابه مضمونها.
ولكنْ ما غاية هذه البرامج؟
إن كانت غايتها اكتشاف المواهب الجديدة فقد حققت غايتها على أكمل وجه وكشفت لنا خامات صوتية بديعة، متنوعة في رقتها عذوبتها وإحساسها.
وإن كانت غايتها التسلية والإمتاع فقد سلتنا وأمتعتنا وأطربتنا وجعلتنا ـ مشكورة ـ نشعر بنشوة ما بعدها نشوة ونحن نستمع إلى هذه الأصوات العذبة تغني أروع الألحان التي غناها مطربونا الكبار في المشرق والمغرب لعباقرة شعراء الفصحى والعامية.
وأما إن كانت غاية هذه البرامج تطوير الأغنية العربية فقد قصرت هذه البرامج العربية والمحلية عن ذلك وأخفقت أيما إخفاق في تحقيق هذه الغاية. فلا بد ممن يتصدى لتطوير الأغنية العربية أن يهتم بعناصرها الثلاثة، وكلها على درجة واحدة من الأهمية: الكلمة واللحن والصوت. ولكن الكلمة هي الأساس الذي يبنى عليه اللحن والصوت. الكلمة هي التي توحي للموسيقي باللحن المناسب لها، وهو يلازمها كظلها، فحين تسمو الكلمة يسمو اللحن معها إلى أجواء علوية وحين تهبط الكلمة يهبط اللحن معها إلى درجة الإسفاف. ولا يمكن أن يبدع الملحن لحنا رائعا وراقيا لكلمات تافهة.
هذه الأصوات الغرّيدة الخلابة التي نكتشفها في هذه البرامج هي هبة من المولى سبحانه وتعالى، يمكن تشبيهها بالأحجار الكريمة النادرة كالزمرد والياقوت والزبرجد تصقلها هذه البرامج بما توفره لها من تدريبات على الصوت والألحان ونغمات المقامات المتنوعة. ولكن كل جوهرة منها بحاجة إلى عقد يبرز بريقها ويزيد من إبهارها وهذا العقد هو كلمات الأغنية التي تبرز لمعان الصوت واللحن معا. فإن كان هذا العقد ذهبا زاد من بريق الجوهرة ولمعانها وإن كان من نحاس زال بريقه بسرعة وعلاه الصدأ.
ونظرة سريعة إلى تكوين لجان التحكيم في هذه البرامج تكشف لنا عن غياب ممثلي الكلمة فيها، فمعظم اللجان مكونة من مطربين وملحنين وليس بينهم شاعر من شعراء الأغنية. فهل هو تهميش مقصود للكلمة وللشعراء أم تهميش يدل على نقص في إدراك أهمية الكلمة في الأغنية؟
إن تطوير الأغنية العربية تم في الماضي وفي عصر الزمن الجميل على مستوى الأفراد والمؤسسات. فعلى مستوى الأفراد ساهم بعض شعراء الفصحى في مصر عن وعي وإدراك في تطوير اللغة العامية لتصبح قريبة من الفصحى بعد تخليصها من الشوائب التي لحقت بها، وفي مقدمتهم أحمد رامي وبيرم التونسي وصالح جودت ومأمون الشناوي، فكتبوا أشعارهم بلغة عامية راقية وأدخلوا على الأغنية المصرية معاني بديعة وصورا مبتكرة وبحورا وإيقاعات جديدة.
وواكبهم ملحنون عباقرة على رأسهم محمد القصبجي ورياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب ممن زاوجوا في التلحين بين القصائد الفصحى والعامية. وساهم المطربان اللذان تربعا على عرش الأغنية في مصر والوطن العربي في ذلك العصر وهما أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب في تطوير الأغنية العربية فلم يكتفيا بالغناء بالعامية الراقية بل شَدَوا بأجمل قصائد الفصحى. غنت أم كلثوم من أشعار أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأحمد رامي وإبراهيم ناجي وأبي فراس الحمداني وعمر الخيام والأمير عبد الله الفيصل وجورج جرداق والهادي آدم ومحمد إقبال. وغنى عبد الوهاب من أشعار شوقي وإيليا أبي ماضي والأخطل الصغير وعلي محمود طه وإبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل ونزار قباني وكامل الشناوي وعزيز أباظة وأحمد خميس وعبد المنعم الرفاعي كما غنى من الشعر القديم لمهيار الديلمي وصفي الدين الحلي.
وساهم الأخوان رحباني وفيروز في تطوير الأغنية العربية فغنت فيروز من أشعارهما وألحانهما وأشعار كبار الزجالين والملحنين اللبنانيين أعذب الأغاني. كما غنت بالفصحى من أشعارهما ومن شعر أحمد شوقي والحصري القيرواني وسعيد عقل وبشارة الخوري وجبران خليل جبران ونزار قباني وبدوي الجبل أروع القصائد.
ولا ننسى أن عبد الحليم حافظ الذي كان محبوب العرب في عصره كان تلميذا ذكيا لعبد الوهاب فزاوج في غنائه بين العامية الراقية والفصحى، فكانت قصيدة "لقاء" للشاعر صلاح عبد الصبور أول أغنية سجلها للإذاعة وآخر أغنية قصيدة "قارئة الفنجان" لنزار قباني.
ونتساءل هنا: هل أضاف غناء القصائد بالفصحى لهؤلاء الفنانين أم حط من قدرهم؟
لاشك أنهم بقدر ما خلدوا هذه القصائد بقدر ما خلدتهم. رفعوها فرفعتهم ولو أهملوها لأهملهم تاريخ الأغنية كما أهمل غيرهم ممن اكتفوا بغناء الأغاني العادية ولا أقول الهابطة.
وأما على مستوى المؤسسات فقد كانت الإذاعة المصرية أول إذاعة عربية عمومية ورسمية سنة 1934. وحرصت منذ نشوئها على أن يكون في لجنة القراءة التي تجيز إنتاج الأغاني وإذاعتها كبار شعراء الفصحى والعامية من أمثال أحمد رامي ومحمود حسن اسماعيل ومأمون الشناوي وعبد الفتاح مصطفى. وكانت هناك معايير دقيقة لإجازة النصوص فلا يجاز نص مناف للأخلاق أو للذوق العام ولا نص ركيك الأسلوب أو فيه حط من مهنة من المهن أو من عرق أودين. وتبعت منهجها الإذاعات العربية فكانت الأغاني العامية والفصحى التي تنتجها الإذاعات في المشرق والمغرب في المستوى المطلوب لفنانين كبار أمثال فريد الأطرش وأسمهان ومحمد فوزي ووديع الصافي وصباح فخري وكارم محمود ونجيب السراج ونجاة الصغيرة ووردة الجزائرية وعبد الرحمن عزيز والهادي الجويني وعلية التونسية وعبد الوهاب الدوكالي وعبد الهادي بلخياط.
وعقب استقلال الجزائر اهتمت الإذاعة الجزائرية بإنتاج الأغاني العامية والفصحى. وأنتجت أغان وطنية وعاطفية لكبار شعراء الفصحى أمثال مفدي زكريا ومحمد الأخضر السائحي ومحمد بلقاسم خمّار وسليمان جوادي وعمر برناوي. وعرفت الساحة الغنائية مطربين كبارا أمثال أحمد وهبي ورابح درياسة وخليفي أحمد والطاهر فرجاني وصليحة الصغيرة وجروابي وغيرهم.
وبعد الانفتاح وتحت تأثير العولمة توقفت الإذاعات العربية عن الإنتاج وتركته في أيدي الخواص. وعوّض لجان القراءة ذوق وثقافة المنتج وطمعه في الربح السريع فتوقف إنتاج القصائد وبدأ عصر أغاني الإثارة والإيقاع الراقص، ولا ضير في وجود هذا النوع من الأغاني على أن تكون جزءاً من المشهد الغنائي لا أن تحتكر المشهد كله.
إن تهميش الشعر والشعراء جعل أصحاب المواهب ينصرفون عن كتابة الشعر ويتوجهون إلى نشاطات أخرى كالسياسة والإدارة والإعلام ممّا أدى إلى انحسار الشعر الحقيقي، حيث ترك أصحاب المواهب دفته للمتطفلين الذين لا يستطيعون الإبداع في الجوهر فتنافسوا على الإبداع في الشكل وجردوه من الوزن والإيقاع وحادوا به عن رسالته الجمالية الاجتماعية والإنسانية في حب الطبيعة وحب الإنسان وحب الأسرة وحب الحيوان فأصبح معظمه هذيانا مَرَضيا لا متعة فيه ولا أحاسيس. وليس غريبا أن يصادف تهميش الشعراء وانحسار الشعر في بلداننا وفي العالم انتشار العنف في الشارع وفي المدرسة وحتى في الأسرة، وازدياد حالات الانتحار بصورة مخيفة. فالشعرـ فصيحه ودارجه ـ يعيد التوازن المفقود في المجتمع بين المادة والروح؟ والشاعر بأهازيجه وأغانيه، يشكل ـ مع الدين ـ وجدان الشعب، ويحفظ قيمه، ويقوي التماسك والتلاحم بين أفراده.
وإذا سلمنا بأن انحدار الأغنية سببه تهميش الشعر، فهذا يعني بان تطويرها يبدأ بإعادة الاعتبار له. وتطوير الأغنية العربية بالعامية والفصحى يحتاج إلى جهة منتجة في القطاع العام أو الخاص لا يهمها الربح السريع بقدر ما يهمها خدمة الفن وترقية الذوق العام، جهة تضع نصب عينها إنتاج أغان راقية بالعربية والفصحى. وما المانع في أن تساهم هذه البرامج في فتح مسابقات لاكتشاف الموهوبين من الشعراء الشباب؟ وكما اختارت أجمل الأصوات يمكن أن تختار أجمل الكلمات وأن تكتشف بين المتنافسين شعراء عباقرة. لاشك أن هذا العمل صعب وشاق، فمدعو الكتابة والمتشاعرون كثيرون، لكنه عمل يستحق الجهد والكد لأنه يساهم في النهوض بالأغنية العربية وليس ذلك بقليل. وربما يساهم أيضا في خلق مسارح غنائية تحفظ ماء وجه الفنان ولا تضطره إلى الغناء في الملاهي الليلية أمام السكارى.
وفي انتظار ذلك، أتمنى أن يحرص أصحاب الصوت الحسن من مطربي المستقبل على الاهتمام بدواوين شعراء بلدانهم وأن يوثقوا الصلة مع الموهوبين منهم فجزء كبير من نجاحهم يعتمد على الشعر الذي يغنونه، وألا يتهربوا من غناء القصائد الجيدة بالفصحى، فكاظم الساهر وماجدة الرومي ما زالا يغنيان القصائد وما زالت أسهمهما في ارتفاع بين مطربي هذا العصر.
عبد الله خمّار